سورة الأنبياء - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)} [الأنبياء: 21/ 34- 41].
سبب نزول هذه الآيات:
أن بعض المسلمين قال: إن محمدا لن يموت، وإنما هو مخلّد، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنكره، ونزلت هذه الآية.
وفي رواية أخرى: نزلت هذه الآية، لما قال الكفار: إن محمدا سيموت قائلين: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 52/ 30].
والمعنى: قضى الله تعالى ألا يخلّد في الدنيا بشرا ولا نفسا، فلن يكتب الخلود لأحد، فلا نخلد أحدا، ولا أنت نخلّدك أيها النبي، وقد قدّر لك أن تموت كسائر الرسل المتقدمين قبلك، فهل إذا مت أيها الرسول يبقى هؤلاء المشركون بربهم؟ لا، بل الكل ميتون، فلا أمل في أن يعيشوا بعدك. وهذا رد على المشركين الذين كانوا يتمنون موت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم، وكانوا يقدّرون أنه سيموت، فيشمتون بموته، فلا محل لهذه الشماتة لأن الموت نهاية طبيعية لكل حي، حتى الملائكة والجن يموتون، لقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27)} [الرحمن: 55/ 26- 27].
ثم أكد الله تعالى موت الأنفس بقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ} أي كل مخلوق إلى الفناء، وكل نفس ذائقة مرارة الموت، قبل مفارقتها الجسد، فيكون المراد بالنفس هنا: كل نفس مخلوقة.
والحياة مسرح للابتلاء أو الاختبار بالبلاء والنعمة، وبالشدة والرخاء، وبالشر والخير، ومرجعكم ومصيركم في النهاية إلى حكم الله وحسابه وجزائه، فنجازيكم بأعمالكم، وفي هذا وعد بالثواب، ووعيد بالعقاب، وهذا إخبار من الله عز وجل عن الرجعة إليه، والقيام من القبور، بعد أن كانوا على أحوال مختلفة في الدنيا، كما قال الله تعالى في تقسيم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} [فاطر: 35/ 32]. والابتلاء بالخير والشر هنا: كل ما يصح أن يكون فتنة وابتلاء، وذلك خير المال وشره، وخير البدن وشره، وخير الدنيا في الحياة وشرها. وأما الهدى والضلال، فغير داخل في هذا، كما لا تدخل الطاعة والمعصية، والأوامر والنواهي لأن من هدي فليس نفس هداه اختبارا، بل قد تبين خبره.
ثم ذكر الله تعالى استهزاء بعض المشركين بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم، كأبي جهل بن هشام وأمثاله، فليس لهم همّ إلا السخرية من النبي، واتخاذه مهزوءا به، وقالوا تعجبا واستنكارا: أهذا الذي يعيب آلهتكم ويسفّه أحلامكم؟! والحال أنهم كافرون بالله الذي خلقهم وأنعم عليهم، وإليه مرجعهم، فهم يعيبون على النبي ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع، مع أنهم كافرون بالرحمن الذي هو المنعم الخالق، المحيي والمميت.
روي أن أبا سفيان وأبا جهل بن هشام رأيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، فاستهزءا به، فنزلت الآية بسببهما. وظاهر الآية يعم معناها جميع كفار قريش وعظمائهم الذين كانوا ينكرون موقف الرسول من آلهتهم. فرد الله عليهم بأنهم أحق بالملام، وهم المخطئون، حيث كفروا بذكر الله، واستمتعوا بذكر الأصنام، وقوله تعالى: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ} معناه بما يجب أن يذكر به. والمقصود بالرحمن:
هو الله تعالى، ردا عليهم حين قالوا: ما نعرف الرحمن إلا باليمامة.
ثم مهدت الآية للرد على المشركين في استعجالهم العذاب، وطلبهم آية مقترحة، فهي مقرونة بعذاب مجهّز إن كفروا بعد ذلك، ومضمون الآية: أن الإنسان خلق متعجلا الأمور، وكأن هذا جزء من تكوينه وفطرته، كما قال سبحانه: {وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا} [الإسراء: 17/ 11]. أي في الأمور، فإن المشركين يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى الإيمان والإقرار بالعبودية، وبرسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث الذي استعجل العذاب الذي هدد به النبي قومه، إنهم يستعجلون العذاب، ويقولون على سبيل الاستهزاء بالنبي وصحبه المؤمنين: متى وقت حدوث عذاب النار الذي تهددوننا به، إن كنتم صادقين في وعدكم وقولكم؟! والمراد نهيهم عن الاستعجال، وزجرهم.
لو يعلم الذين كفروا نوع العذاب المنتظر في الآخرة في الوقت الذي لا يتمكنون من منع العذاب عن وجوههم وظهورهم، ولا يجدون ناصرا لهم ينجيهم، لو يعلمون لما قالوا ذلك، ولم يستعجلوا العذاب.
بل تأتيهم النار أو الساعة فجأة، فتدهشهم وتحيرهم، فلا يستطيعون صرفها عن أنفسهم، ولا هم يؤخرون لتوبة أو اعتذار.
ولقد استهزأ الكفار الماضون بالرسل السابقين من قبلك، أيها الرسول، فأحاط بالذين سخروا واستهزءوا برسلهم العذاب الذي أنذرتهم به الرسل، جزاء استهزائهم.
الحراسة المطلقة لله من البأس والشدة:
يتعرض الإنسان أحيانا للأحداث الجسام والوقائع العظام بقضاء الله وقدره ولحكمة بالغة، قد تكون قصاصا في الدنيا، وقد تكون تنبيها وتحذيرا، وقد تكون عبرة وابتلاء واختبارا، ولكن في غالب الأحوال يكون الإنسان عادة في كلاءة الله وحراسته وحفظه، تحميه من الموت، وتمنعه من السوء أو المكروه، وليس للآلهة المزعومة من الأصنام وغيرها قدرة على حفظ شيء من الضرر، أو جلب شيء من النفع، وهذا لون من المقارنة، لحمل المشركين الوثنيين على الإيمان بوحدانية الله وقدرته، وترك عبادة من لا قدرة ولا إرادة له أصلا، قال الله سبحانه:


{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44)} [الأنبياء: 21/ 42- 44].
هذا لون من تقريع المشركين الذين لا يتفكرون بأدلة الإيمان، ولا يتركون عبادة الأصنام، فقل يا محمد لهؤلاء الكفرة المستهزئين بك وبما جئت به، الكافرين بذكر الرحمن، الجاهلين به، قل لهم على جهة التقريع والتوبيخ: من يحفظهم؟ ومن الذي يحرسهم بالليل في نومهم، وبالنهار في عملهم، من بأس الله وعذابه إن أتاهم؟ بل إن هؤلاء المشركين- على الرغم من وجود الأدلة الكثيرة العقلية والمادية الدالة على فضل الله ونعمته بالحفظ- معرضون عن تلك الأدلة.
ثم وبخهم الله سبحانه على عبادتهم آلهة لا تضر ولا تنفع، فهم يظنون أن آلهتهم العاجزة عن كل شيء، تمنعهم من عذاب الله، والواقع لا يمنعهم أحد من بأس الله إلا الله، وتلك الآلهة لا يتمكنون من نصر أنفسهم، ولا دفع الضر عنهم، ولا هم يجأرون ويمنعون، بل يخضعون لسلطان الله فيهم، لأنهم في غاية العجز والضعف، فكيف ينصرون غيرهم، ويدفعون الضر عنهم أو يجلبون النفع لهم؟! بل إن الذي غرهم وأوقعهم في الضلال أن الله متّع المشركين بالنعم الكثيرة، في الدنيا كما متّع آباءهم، حتى طال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء، والحقيقة أنهم مع مرور الزمان في غفلة، حتى اغتروا بنعم الله، ونسوا شكرها، ثم وعظهم الله بعظة بليغة تتعلق بمواضع العبرة في الأمم والبشر، وهذه العظة مضمونها: أفلا يرون رأي العين التي تتبعها رؤية القلب ما يتعرض له بعض معمور الدينا وأطرافها من خراب، وحال بعض البشر من نقص وموت، فيكون المراد حينئذ أهل الأرض. وحقيقة توبيخهم هي: أهم يغلبون من غلب جميع أهل الأرض، وقهر الكل بسلطانه وعظمته؟ أي إن ذلك محال بيّن، بل هم مغلوبون مقهورون.
وفي قوله تعالى: {نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} إشارة واضحة إلى التقلبات والأحداث التي تطرأ على أحوال الدنيا، أو تصف وجود الكرة الأرضية، أما التقلبات: فهي التي تحدث في أثناء الفتوحات، حيث تمتد رقعة شعب، وتضيق رقعة شعب آخر، ففي الماضي كانت تتقلص أراضي المشركين المعتدين بفتح المسلمين لها، واتساع نفوذهم، فيكون المسلمون بإرادة الله وقوته هم الغالبين، والمشركون هم المغلوبين وفي هذا عبرة للمعتبر. وأما حال الأرض: فهي كما أثبت العلماء المعاصرون غير تامة التكوير والاستدارة، وإنما هي مفلطحة، وهو ما يعبر عنه بالخط الإهليجي في القطب الشمالي والجنوبي، مما يدل على وجود صانع مدبر، هو الإله ذو القدرة النافذة، والسلطان المطلق، يتحكم في الأرض أثناء دورانها، ويخلق الله ما يشاء، ويحكم بما يريد.
وليتأمل الإنسان قول الله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ} معناه بالقدرة والبأس، والأرض عامة في الجنس. كما يتأمل {نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} أي من جوانبها لا من وسطها، ويراد به: إما ما يخرب من المعمور، فذاك بعض الأرض، وإما أن يراد به موت البشر، فهو تنقص للقرون، ويكون المراد حينئذ أهل الأرض، كما ذكر ابن عطية رحمه الله.
الإنذار بالوحي والحساب:
تتكرر في آي القرآن الكريم إنذارات المشركين وتهديداتهم، لحملهم على الإيمان، ويكون الإنذار أحيانا بالتذكير بإهلاك القرون والأمم الظالمة السابقة، وأحيانا بقوارع الوحي والتهديد بالعذاب الشامل، وتارة بالحساب الشديد على صغائر الأمور وكبائرها، ليعلم البشر أن الإله القادر محيط بكل شيء من أحوال الدنيا، والهيمنة على مصائر المخلوقات في الدنيا بالقهر والغلبة، وفي الآخرة بالحساب الدقيق الذي لا يفلت منه أحد، ويكون المصير المشؤوم لبعض الناس، قال الله تعالى مبينا كل هذا:


{قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)} [الأنبياء: 21/ 45- 47].
المعنى: قل أيها الرسول النبي: يا أيها المقترحون المتشططون من أهل الشرك، إنما أنذركم بوحي يوحيه الله إلي، وبدلالات على العبر والعظات التي أقامها الله تعالى لينظر فيها، كنقصان الأرض من أطرافها وغيره، وإنما أنا مبلّغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال، فلا تظنوا أن ذلك من قبلي، بل الله آتيكم به، وأمرني بإنذاركم به، وعملي: هو مجرد التبليغ لا الإلزام بالقبول، ولم أبعث بآية مطّردة ولا بما تقترحونه، فإن لم تجيبوا دعوتي، فعليكم الوبال والنكال، لا علي.
ولا يجدي هذا الوحي من أعمى الله بصيرته، وختم على سمعه وقلبه، وما مثل المعرضين عن آيات الله إلا مثل الصّمّ الذين لا يسمعون شيئا أصلا، فليس الغرض من الإنذار مجرد السماع، بل الإصغاء لما يسمع، والتمسك به، بالإقدام على فعل الواجب، والتحرز عن المحرّم، ومعرفة الحق، فإذا لم يتحقق هذا الغرض، فلا فائدة في السماع.
ولئن مسّ أو أصاب هؤلاء المكذبين شيء من عذاب الله يوم القيامة، ليبادرن إلى الاعتراف بذنوبهم، ويقولون: يا هلاكنا، إنا ظلمنا أنفسنا في الدنيا، بتقصيرنا في الطاعة، وإعراضنا عن الإيمان الحق بالله تعالى، وبعبارة أخرى: ولئن مسّ هؤلاء الكفرة صدمة عذاب في دنياهم، ليندمنّ وليقرّنّ بظلمهم. وفي هذا إشارة إلى شدة عذاب الله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)} [البروج: 85/ 12].
وبعد أن توعدهم الله بنفحة من عذاب الدنيا، عقّب ذلك بتوعّد بوضع الموازين الدقيقة للحساب في الآخرة، والمعنى: ونضع الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال في يوم القيامة، أو لحساب يوم القيامة، أو لحكم يوم القيامة، فقوله تعالى: {لِيَوْمِ الْقِيامَةِ} بتقدير حذف مضاف، فلا يلحق نفسا أي ظلم، فهم إن ظلموا أنفسهم في الدنيا، فلن يظلموا في الآخرة، حتى وإن كان العمل أو الظلم زنة حبة الخردل، فنجازي عليه الجزاء الأوفى، حسنا أو سيئا، وكفى بنا محصين لأعمال العباد، فلا أحد أعلم بأعمالهم منا، ولا أحد أضبط ولا أعدل في تقويم الأعمال منا. وفي هذا تحذير شديد، ووعيد أكيد للكفار والعصاة على تفريطهم أو تقصيرهم فيما يجب عليهم نحو الله تعالى لأن الإله العالم الذي لا يشتبه عليه شيء، القادر الذي لا يعجزه شيء، جدير بأن يكون الناس في أشد الخوف منه.
وجمهور المفسرين على أن الميزان في يوم القيامة إنما هو ميزان واحد، بعمود وكفتين، توزن به الأعمال، ليبيّن الله للناس المحسوس المعروف عندهم. والخفة والثقل متعلقة بأجسام يقرنها الله تعالى يوم القيامة بالأعمال، فإما أن يكون الموزون صحف الأعمال، أو مثالات تخلق، أو ما شاء الله تبارك وتعالى، فهي موازين حقيقية، توزن بها الأعمال.
والمقصود من الوزن: إقامة العدل المطلق الدقيق بين الخلائق لأن الناس عادة لا يثقون إلا بالمحسوسات المشاهدة لهم، فإذا شاهدوا ما يوجد في كفتي الميزان من حسنات وسيئات، اقتنعوا بأم أعينهم بما يشاهدون، وأدركوا حصيلة ما قدموا من أعمال صالحات أو سيئات.
إنها إذن موازين حقيقية توزن بها الأعمال بعد تجسيمها، ولا مانع على قدرة الله أن توزن بهذه الموازين الأمور المعنوية كما توزن الأمور الحسية، كموازين الضغط والحرارة والحركة والاستشعار من بعد.
خصائص التوراة والقرآن:
إن منهاج الكتب الإلهية واحد، وغايتها واحدة، فمنهاجها الدعوة إلى توحيد الله، وإنارة الطريق أمام البشر، وتذكير أهل التقوى بالعمل الصالح، وغايتها إصلاح البشرية، ووحدة الأمة، واستمرار الأصالة الإيمانية، دون تعثر ولا انحراف، ولا تغير أو تبدل، وحينئذ تلتقي مسيرة الإيمان في درب واحد، ذروتها الإخلاص لرب العالمين، وجذع شجرتها الإقرار بوجود الله ووحدانيته، وأغصانها الأعمال الصالحة المتميزة بخشية الله، وثمارها إسعاد الناس في الدنيا والآخرة. وهذا ما دوّنته آيات القرآن الكريم التي تربط بين هدي التوراة المنزلة على موسى عليه السلام، وهدي القرآن المجيد المنزّل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، قال الله عز وجل:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8